باتت يثرب غارقة فى دموعها ليال طوال، اقام كل بيت فيها مأتما. وعندما انتهت مراسم الحداد بقيت الاحزان فى القلوب، ليس فى يثرب وحدها، بل فى كل بلاد المسلمين!! تيار من الوجد يتجدد ذاتيا حتى اصبحت ذكرى استشهاد الامام الحسين، واحدا من الملامح الثابتة لامة محمد!
السيدة زينبب، كانت من اكبر عوامل ابقاء جذوة كربلاء ملتهبة وكأنها النار الخالدة. كانت غاضبة وحزينة، لا تتوقف عن سرد قصة استشهاد الامام الحسين، لكل من يزورها، وما اكثر الذين زاروها وسمعوا منها، وبكوا فى حضرتها، من العراق والشام واليمن، وغيرها من الامصار. حتى اصبحت دارها مركزا شديد الخطورة على الدولة الاموية، فأرسل والى المدينة الى مولاه يزيد بن معاوية، يبلغه بما يدور قائلا: .. ان وجودها بالمدينة مهيج للخواطر، فهى فصيحة عاقلة لبيبة وقد عزمت ومن معها على الخروج للاخذ بثأر الحسين .
فأمر يزيد، عامله فى المدينة بتفريق البقية الباقية من آل محمد، فى مختلف الاقطار والامصار. فأسرع الوالى يبلغ السيدة زينب، بأمر الخروج من المدينة، لتقيم فى اى بلد آخر.
انه حكم بالنفي، الامر الذى اغضب عقيلة بنى هاشم فرفضت الانصياع قائلة: .. علم الله ما صار الينا، قتل خيرنا، وسيق الباقون كا تساق الانعام، وحملنا على الاكتاف، فوالله لن نخرج وان اريقت دماؤنا .
تجمعت الهاشميات حولها، مشفقات عليها ان تتعرض لبطش من لا يتقى الله، حتى ان زينب بنت عقيل بن ابى طالب، قالت لها: يا ابنة عمي، قد صدقنا الله وعده واورثنا الارض نتبوأ منها حيث نشاء وسيجزى الله الظالمين.. ارحلى الى بلد آمن . اختارت مصر، فجاء اختيارا اقرب للالهام، حيث ارض طيبة وشعب كريم.
مرة اخرى تحركت القافلة بالسيدة زينب، ورفيقاتها من الهاشميات.. كم ارتحلت وتنقلت فى تلك الفترة، حتى اضناها السفر، هذه الجولة كانت متعبة، بدت العقيلة، وقد علا الجهد المضنى الملامح النبيلة، وخيم الصمت عليها بشكل مخيف: شفاه مزمومة بقسوة، ونظرة غائبة، ودمعة حاضرة.
خافت عليها صويحباتها من الانهيار الصحي، فحاولت تنبيهها بكل الوسائل.. اخذت كل واحدة منهن تروى احداث كربلاء وسط بكاء لا ينقطع، حتى تخرج من جمودها ولو بالبكاء، لكن دون جدوي، فقد تحجر الدمع فى المآقى الحزينة، فتوقفت المحاولات، وتركوها لعالمها البعيد.
وصلت القافلة ارض المحروسة، مع بزوغ شهر شعبان "61 هجرية" فوجدت كل مصر فى استقبالها، خرجت الوفود من كل فج وتجمعت فى بلبيس، وعلى رأسها والى المحروسة ــ محمد بن مخلد الانصارى ــ ومعه فقهاء مصر، وكبار اهله، فى استقبال ــ عقيلة بنى هاشم.
كانت قصص وقفتها فى كربلاء، ومواجهتها ليزيد، وتحملها لما وقع عليها وعلى آل بيتها من بلاء، قد سبقتها الى مصر، بل الى كل ديار المسلمين. لذا فما ان اهلت على الجموع يحيط بها الجلال المهيب والطلة الحزينة حتى اجهش الجميع بالبكاء فها هى بطلة كربلاء وشقيقة الامام الشهيد بينهم بكل ما تمثله من معان وقيم.
سارت القافلة تحفها قلوب الناس، حتى وصلت الفسطاط فأنزلها مسلمة بن مخلد ــ والى مصر ــ فى دار حيث اقامت العام الاخير من عمرها، مستغرقة فى صلواتها وتعبدها، منفصلة عن كل ما حولها!
حتى كانت عشية الاحد الرابع عشرة من رجب عام "61 من الهجرة" غادرت الروح الطاهرة مسكنها الارضي، صاعدة الى خالقها فى عليين، لتلقى هناك كل الاحباء الذين تعلقت بهم واحبتهم ودافعت عنهم.
دفنت فى دار مسلمة، حيث نزلت، وتحول ضريحها الى مزار، يقصده المصريون، يتذكرون قصة امرأة وحيدة عزلاء. تصدت للظلم، وصمدت بوجه الطغيان، وانتصرت على عدوها وهى فى قبرها!!
إذن لم تمت قضيتها بموتها، بل بقيت قصة مقاومتها الباسلة، وكلماتها الملتهبة، تثير فى النفوس كراهية الظل والظلمة واعوانهم، وبقيت عبارات خطابها فى اهل الكوفة، محفورة بالنار والندم فى اعماق النفوس.. تراثا من لهب، ينتقل من جيل الى جيل، لا يخمد بتعاقب الازمنة، بل يشتد اوارا.
لم يطل الزمن كثيرا، فبعد ثلاث سنوات كانت عوامل الندم والغضب، قد تحولت الى دعوة للثأر، بعمل استشهادي، يرتضى اصحابه الموت، لعل الله يغفر لمن تقاعسوا عن نصرة الامام الشهيد!
تناقل النادمون قصة خروج الحسين، واصرار الحسين، واخيرا موته حزينا لكن واقفا، عطشانا لكن شامخا.
هبت الكوفة بأسرها هادرة بنداء مزلزل: يا لثارات الحسين .
بعدها فى العام "66 من الهجرة" شهدت الكوفة، غضبة اخري، اتسعت حتى شملت معظم سواد العراق، قتل فيها مائتان وثمانية واربعون ممن شاركوا فى قتل الامام الشهيد، بوقعة واحدة، تلتها مواقع عدة.
لم تتوقف النقمة، بل استمرت مطاردات لكل من شاركوا فى جريمة كربلاء، بحثوا عنهم فى كل مكان وبالحاح واصرار، حيث يُؤتى بهم ليسألوا: اين الحسين بن علي؟ كيف قتلتم من امرتم بالصلاة عليه؟! .
ضمت قائمة من قتلوا فى هذه المطاردات اسماء: عبيد الله بن زياد هذا الطاغوت الذى امر بذبح الامام ورجاله وكاد ان يفتك بصغيره المريض ــ على بن الحسين ــ وقتل ايضا قائد جيش الكوفة الذى قام بتنفيذ مذبحة كربلاء ــ عمر بن سعد بن ابى وقاص ــ وهرب الاشعث بن قيس، الذى قاد القوة التى هاجمت الشهيد مسلم بن عقيل وسلمه لابن زياد كى يقتله! فهدم الثائرون داره،. وبنوا على انقاضها دار حجر بن عدى الكندي، التى هدمها بن زياد.
لم تتوقف الدموع فى عيون النادمين، ولم تكف الدماء تطلب بالثأر للدماء، وكانت وراء ذلك كله صرخة امرأة ثكلت شقيقها وولديها فى كربلاء، فقالت لاهل الكوفة من قمة عذابها: أتبكون؟ فلا سكنت العبرة .
منذ تلك اللحظة بدأت المدينة رحلة ابدية مع الندم. وهنا يقول الطبري، ويتفق معه ابن الاثير: ومكثوا بعدها شهرين او ثلاثة، كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع .
بقيت حوائط الكوفة، ودروبها تردد عبارات السيدة زينب ــ عقلة بنى هاشم ـ التى تقول: .. اى والله.. فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فقد ذهبتم بعارها وشنارها. فلن ترحضوها بغسل ابدا. وكيف ترحضون قتل سبط خاتم النبوة، وهو سيد شباب اهل الجنة؟ .
هل نستغرب بعد هذا الخطاب الزينبي، ان نسمع بينهم من يقول: فما عذرنا الى ربنا وعند لقاء نبينا "صلى الله عليه وسلم" وقد قتل فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله؟ .. لا والله لا عذر دون ان تقتلوا قاتله والموالين عليه، ان نموت دون ذلك، فعسى ربنا ان يرضى عنا، وما نحن بعد لقائه، لعقوبته امنين .
فى العام "65 من الهجرة" تجمعت عوامل الندم والغضب والرغبة فى الاستشهاد، فى حركة عرفت فى التاريخ باسم التوابين عندما انطلق الرجال بالسلاح من الكوفة، الى حيث قبر الامام الشهيد بكربلاء، وهم يتلون الآية: فتوبوا الى بارئكم، فاقتلوا انفسكم. ذلك خير لكم عند بارئكم .
فلما وصلوا القبر انخرطوا فى بكاء ونشيج ولا يصدر إلا عن نفوس فاض بها عذاب الندم والبحث عن الخلاص ولو بالموت. هناك اقاموا يوما وليلة يبكون ويتضرعون: اللهم ارحم حسينا الشهيد ابن الشهيد..
اللهم انا نشهدك انا على دينهم وسبيلهم، واعداء قاتليهم واولياء محبيهم.
اللهم انا خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننا من الخاسرين .
هكذا فجرت عبارات سيدة حاق بها الظلم، واحدة من اكبر حركات التاريخ، واصبحت ــ عقيلة بنى هاشم ــ نموذجا لكل الضعفاء بمواجهة قوى الظلم الكبري، والانتصار عليها مهما طال الزمن، ومهما تفاوت حجم الامكانات!! فالايمان وعدالة القضية، تبقى الفيصل النهائي، وإلا فمن يستطيع القول بأن يزيد انتصر بقتل الحسين؟ او ان ابن زياد كسب معركته مع السيدة زينب!!